فصل: فصل: (قتال أهل الكتاب والمجوس حتى يسلموا أو يعطوا الجزية)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكافي في فقه الإمام أحمد ***


باب‏:‏ التعزير

وهو مشروع في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة كوطء جاريته المشتركة أو المزوجة ومباشرة الأجنبية فيما دون الفرج وسرقة ما لا يوجب الحد والجناية بما لا يوجب القصاص ونحوه لما روي عن علي رضي الله عنه أنه سئل عن قول الرجل للرجل‏:‏ يا فاسق يا خبيث قال‏:‏ هن فواحش فيهن تعزير ليس فيهن حد ويجوز بالضرب والتوبيخ وبالحبس ولا يجوز قطع شيء من أعضائه ولا جرحه لأنه لم يرد الشرع بذلك ولا يتعين الجلد إلا في وضعين‏:‏

أحدهما‏:‏ إذا وطئ جارية زوجته بإذنها فإن يجلد مائة لما ذكرنا من حديث النعمان بن بشير‏.‏

والثاني‏:‏ إذا وطئ الأمة المشتركة فإنه يجلد مائة إلا سوطا لما روى سعيد بن المسيب عن عمر في أمة بين رجلين وطئها أحدهما يجلد الحد إلا سوطا ولا تقدير فيما عداهما إلا أنه لا يزاد على عشر جلدات لما روى أبا بردة قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏[‏و لا يجلد أحد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله‏]‏ متفق عليه وعنه أن وطء الجارية المشتركة لا يزاد فيه على عشر جلدات للخبر وعنه‏:‏ ما يدل على أن ما كان سببه الوطء يجلد مائة إلا سوطا لخبر عمر وما كان سببه غير الوطء لم يبلغ به أدنى الحدود فلا يعزر الحر بما يجلد به في الخمر ولا يبلغ بالعبد حده لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏[‏من بلغ حدا في غير حد فهو من المعتدين‏]‏‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏التعزير‏]‏

ويجب التعزير في الموضعين اللذين ورد الخبر فيهما وما عداهما يفوض إلى اجتهاد الإمام لما روي أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ إني لقيت امرأة فأصبت منها ما دون أن أطأها فقال‏:‏ ‏[‏أصليت معنا‏]‏‏؟‏ قال‏:‏ نعم فتلا عليه‏:‏ ‏{‏إن الحسنات يذهبن السيئات‏}‏ فإن جاء تائبا معترفا يظهر منه الندم والإقلاع جاز ترك تعزيره للخبر وإن لم يكن كذلك وجب تعزيره لأنه أدب مشروع لحق الله تعالى فوجب كالحد‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏الحكم إن مات من التعزير‏]‏

وإن مات من التعزير لم يجب ضمانه لأنه مات من عقوبة مشروعة للردع والزجر فلم يضمن ما تلف بها كالحد وإن تجاوز التعزير المشروع ضمن كما لو تجاوز الحد في الحد‏.‏

باب‏:‏ دفع الصائل

كل من قصد إنسانا في نفسه أو أهله أو ماله أو دخل منزله بغير إذنه فله دفعه لما روى عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏[‏من أريد ماله بغير حق فقاتل فقتل فهو شهيد‏]‏ رواه الخلال بإسناده وقال الحسن‏:‏ من عرض لك في مالك فقاتله فإن قتلته فإلى النار وإن قتلك فشهيد ولأنه لو لم يدفعه لاستولى قطاع الطرق على أموال الناس واستولى الظلمة والفساق على أنفس أهل الدين وأموالهم ولا يجب الدفع لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الفتنة‏:‏ ‏[‏اجلس في بيتك فإن خفت أن يبهرك شعاع السيف فغط وجهك‏]‏ وفي لفظ ‏[‏فكن كخير ابني آدم‏]‏ وفي لفظ ‏[‏فكن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل‏]‏ ولأن عثمان رضي الله عنه لم يدفع عن نفسه إلا أن يراد أهله فيجب الدفع لأنه لا يجوز إقرار المنكر مع إمكان دفعه وللمسلمين عون المظلوم ودفع الظالم لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله‏}‏ وقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏انصر أخاك ظالما أو مظلوما‏]‏ قال‏:‏ كيف أنصره إذا كان ظالما‏؟‏ قال‏:‏ ‏[‏ترده عن ظلمه‏]‏ وقوله عليه السلام‏:‏ ‏[‏المؤمنون يتعاونون على الفتان‏]‏ ولأنهم لو لم يتعاونوا على دفع الظلم لقهرهم الظلمة وقطاع الطريق‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏كيف يدفع الصائل‏؟‏‏]‏

ويدفع الصائل بأسهل ما يمكن الدفع به فإن أمكن دفعه بيده لم يجز ضربه بالعصا وإن اندفع بالعصا لم يجز ضربه بحديدة وإن أمكن دفعه بقطع عضو لم يجز قتله وإن لم يمكن إلا بالقتل قتله ولم يضمنه لأنه قتل بحق فلم يضمنه كالباغي وإن قتل الدافع فهو شهيد وعلى الصائل ضمانه للخبر ولأنه قتل مظلوما فأشبه ما لو قتله في غير الدفع فإن أمكنه دفعه بغير قطع شيء منه فقطع منه عضوا ضمنه وإن أمكنه دفعه بقطع عضو فقتله أو قطع زيادة على ما يندفع به ضمنه لأنه جنى عليه بغير حق أشبه الجاني ابتداء ولأنه معصوم أبيح منه ما يندفع به شره ففيما عداه يبقى على العصمة فإذا ضربه فعطله لم يجز أن يضربه أخرى لأنه قد انكف أذاه وهو المقصود وإن قطع يده فولى عنه فضربه فقطع رجله ضمن رجله لأنها قطعت بغير حق ولم يضمن اليد لأنها قطعت بحق وإن مات منهما فلا قصاص في النفس لأنه من مباح ومحظور ويضمن نصف ديته‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏الحكم إن عض يد إنسان فانتزعها من فيه فانقلعت ثناياه‏]‏

وإن عض يد إنسان فانتزعها من فيه فانقلعت ثناياه لم يضمنها لما روى عمران بن حصين أن يعلى بن أمية قاتل رجلا فعض أحدهما يد صاحبه فانتزع يده من فيه فانتزع ثنيته فاختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏[‏أيعض أحدكم أخاه كما يعض الفحل لا دية له‏]‏ متفق عليه ولأن فعله ألجأه إلى الإتلاف فلم يضمنه كما لو رماه بحجر فعاد عليه فقتله‏.‏

وإن أراد رجل امرأة فقتلته دفعا عن نفسها لم تضمنه نص عليه أحمد وذكر حديثا عن عبيدة بن عمير أن رجلا ضاف ناسا من هذيل فأراد رجل منهم امرأة عن نفسها فرمته بحجر فقتلته فقال عمر والله لا يودى أبدا ولو وجد رجل رجلا يزني بامرأته فقتلهما لم يضمنهما لما روى سعيد بإسناده عن إبراهيم أن قوما قالوا لعمر‏:‏ ي أمير المؤمنين إن هذا قتل صاحبنا مع امرأته فقال عمر‏:‏ ما يقول هؤلاء‏؟‏ قال‏:‏ ضرب الآخر فخذي امرأته بالسيف فإن كان بينهما أحد فقد قتله فقال له عمر‏:‏ ما تقول‏؟‏ قالوا‏:‏ ضرب بسيفه فقطع فخذي المرأة فأصاب وسط الرجل فقطعه باثنين فقال عمر‏:‏ إن عادوا فعد إلا أن تكون المرأة مكرهة فلا يحل قتلها وإن قتلها ضمنها لأنه قتلها بغير حق‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏حكم من اطلع في بيت غيره من ثقب أو نحوه فقلع عينه‏]‏

ومن اطلع في بيت غيره من ثقب أو شق باب أو باب غير مفتوح فرماه صاحب البيت بحصاة أو طعنه بعود فقلع عينه لم يضمنها لما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏[‏لو أن امرأ اطلع عليك بغير إذن فحذفته بحصاة ففقأت عينه لم يكن عليك جناح‏]‏ وعن سهل بن سعد‏:‏ أن رجلا اطلع في جحر من باب النبي صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم يحك رأسه بمدرى في يده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏لو علمت أنك تنظرني لطعنت بها في عينك‏]‏ متفق عليهما ظاهر كلام أحمد أنه لا يعتبر أن لا يمكن دفعه إلا بذلك لظاهر الخبر قال ابن حامد يدفعه أولا بأسهل ما يمكن دفعه به كالصائل سواء وليس له رميه بحجر كبير يقتله ولا بحديدة فإن فعل ضمنه لأنه إنما يملك ما يقلع بع العين المبصرة التي حصل الأذى منها فإن لم يمكن دفعه بالشيء اليسير جاز بالكبير حتى يأتي ذلك على نفسه ولا ضمان عليه لأنه تلف بفعل جائز وسواء كان في البيت حرمة ينظر إليها أو لم يكن لعموم الخبر‏.‏

وإن كان المطلع أعمى لم يجز رميه لأنه لا ينظر فصار وجهه كقفا غيره‏.‏

وإن اطلع ذو محرم لأهله لم يجز رميه لأنه غير ممنوع من النظر إلا أن تكون المرأة متجردة فيجوز رميه لأنه يحرم عليه النظر إليها متجردة كالأجنبي ولو تجرد إنسان في طريق لم يجز له رمي من نظر إليه لأنه هتك نفسه بتجرده في غير موضع التجرد‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏الحكم إن صالت عليه بهيمة‏]‏

وإن صالت عليه بهيمة فله دفعها بأسهل ما تندفع به فإن لم يمكن إلا بالقتل فقتلها لم يضمنها لأنه إتلاف بدفع جائز فلم يضمنه كدفع الآدمي الصائل ولأنه حيوان قتله لدفع شره أشبه الآدمي‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏حكم من قتل إنسانا أو بهيمة أو جنى عليهما وادعى أنه فعل ذلك للدفع عن نفسه أو حرمته‏]‏

ومن قتل إنسانا أو بهيمة أو جنى عليهما وادعى أنه فعل ذلك للدفع عن نفسه أو حرمته أو قتل رجلا وامرأته وادعى أنه وجده معها فأنكر الولي فالقول قول الولي وله القصاص لما روي أن عليا رضي الله عنه سئل عن رجل قتل امرأته ورجلا معها وادعى أنه وجدها معها وادعى أنه وجده معها فقال علي‏:‏ إن جاء بأربعة شهداء وإلا دفع برمته ولأن القتل متحقق وما يدعيه خلاف الظاهر وإن أقام بينة أنه قصده بسلاح مشهور فضربه هذا لم يضمنه لأن الظاهر أنه قصد قتله وإن شهدت أنه دخل بسلاح غير مشهور لم يسقط الضمان لأنه ليس هاهنا ما يدفعه‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏حكم من اقتنى كلبا عقورا فأطلقه حتى عقر إنسانا‏]‏

ومن اقتنى كلبا عقورا فأطلقه حتى عقر إنسانا أو دابة أو اقتنى هرة تأكل الطيور فأكلت طير إنسان ضمنه لأنه مفرط باقتنائه وترك حفظه وإن دخل إنسان داره بغير إذنه فعقره الكلب لم يضمنه لأنه متعد بالدخول متسبب إلى إتلاف نفسه فلم يضمنه كما لو سقط في بئر فيها‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏ما أتلفت البهائم من الزرع‏]‏

وما أتلفت البهائم من الزرع ليلا فضمانه على صاحبها وما أتلفت منه نهارا لم يضمنه إلا أن تكون يده عليها لما روى الزهري عن حرام بن سعد بن محيصة‏:‏ أن ناقة للبراء دخلت حائط قوم فأفسدت فيه فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أن على أهل الأموال حفظها بالنهار وما أفسدت بالليل فهو مضمون عليهم رواه أبو داود ولأن عادة أهل المواشي لإرسالها بالنهار للرعي وحفظها ليلا وعادة أهل الحوائط حفظها نهارا دون الليل فكان التفريط من تارك الحفظ في وقت عادته وذكر القاضي‏:‏ أنه متى لم يكن في القرية مرعى إلا بين زرعين لا يمكن حفظ الزرع فيه من البهيمة كساقية ونحوها فليس لصاحبه إرسالها ليلا ولا نهارا فإن فعل فهو مفرط وعليه الضمان ومتى كان التفريط في إرسال البهيمة من غير المالك مثل أن أرسلها غيره أو فتح بابها لص أو غيره فالضمان عليه دون المالك لأنه سبب الإتلاف‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏ما أتلفت البهائم من غير الزرع‏]‏

وإن أتلفت البهيمة غير الزرع ولا يد لصاحبها عليها لم يضمنه ليلا كان أو نهارا لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏[‏العجماء جبار‏]‏ يعني هدرا لأن البهيمة لا تتلف ذلك عادة فلم يجب حفظها عنه فإن ابتلعت جوهرة إنسان فطلب ذبحها ليأخذ جوهرته فعليه ضمان ما نقص بالذبح لأنه فعل ذلك لتخليص ماله وليس على صاحب البهيمة ضمان نقص الجوهرة لأنها نقصت بفعل غير مضمون وإن كانت يد صاحبها عليها ضمن الجوهرة لأن فعلها منسوب إليه ويخير بين ذبحها ورد الجوهرة وأرش نقصها وبين غرمها بقيمتها كمن غصب خيطا فخاط به جرح حيوان فإن عاد فذبحها رد الجوهرة إلى صاحبها واسترجع القيمة كما لو غصب عبدا فأبق فرد قيمته ثم قدر عليه‏.‏

كتاب‏:‏ الجهاد

وهو فرض لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏كتب عليكم القتال‏}‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله‏}‏ وقوله تعالى ‏{‏إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما‏}‏ وهو من فروض الكفايات إذا قام به من فيه كفاية سقط عن الباقين لقول الله سبحانه‏:‏ ‏{‏لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وكلا وعد الله الحسنى‏}‏ ولو كان فرضا على الجميع لما وعد تاركه الحسنى وقال سبحانه‏:‏ ‏{‏وما كان المؤمنون لينفروا كافة‏}‏ ولأنه لو فرض على الأعيان لاشتغل الناس به عن العمارة وطلب المعاش والعلم فيؤدي إلى خراب الأرض وهلاك الخلق ولا يجب إلا بشروط خمسة‏:‏

أحدهما‏:‏ التكليف فلا يجب على صبي ولا مجنون ولا كافر لما تقدم ولأن هذه من شرائط التكليف بسائر الفروع وقد روي عن ابن عمر أنه قال‏:‏ عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشر سنة فلم يجزني في المقاتلة متفق عليه‏.‏

ولأن المجنون لا يستطيع الجهاد والكافر غير مأمون والصبي ضعيف البنية‏.‏

الثاني‏:‏ السلامة من الضرر لقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏غير أولي الضرر‏}‏ وهو العمى والعرج والمرض والضعف لقول الله سبحانه‏:‏ ‏{‏ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج‏}‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج‏}‏ ومن كان في بصره سوء يمنعه من رؤية عدوه وما يتقيه من سلاح لم يلزمه الجهاد لأنه في معنى الأعمى في عدم إمكان القتال وإن لم يمنعه من ذلك لم يسقط عنه فرضه ويجب على الأعشى الذي يبصر في النهار دون الليل وعلى الأعور لأنهما يتمكنان من القتال ولا يجب على أقطع اليد أو الرجل لأنه إذا سقط عن الأعرج فالأقطع أولى ولأنه يحتاج إلى الرجلين في المشي واليدين ليتقي بأحدهما ويضرب بالأخرى والأشل كالأقطع ومن أكثر أصابعه ذاهب أو إبهامه أو ما لا تبقى منفعة إليه بعد ذهابه فهو كالأقطع كذلك ومن كان عرجه يسيرا أو مرضه يسيرا لا يمنعه الركوب والمشي والعدو والقتال لم يسقط عنه الجهاد لأنه متمكن منه‏.‏

الثالث‏:‏ الحرية فلا يجب على العبد لقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج‏}‏ والعبد لا يجد ما ينفق ولأنه عبادة تتعلق بقطع مسافة فلم يجب على العبد كالحج‏.‏

الرابع‏:‏ الذكورية‏:‏ فلا يجب على المرأة لما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله هل على النساء جهاد‏؟‏ قل‏:‏ ‏[‏جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة‏]‏ ولأن الجهاد القتال والمرأة ليست من أهله لضعفها وخورها ولا يجب على خنثى مشكل لأنه لا يعلم كونه رجلا‏.‏

الخامس‏:‏ الاستطاعة لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج‏}‏ ولأنه يحتاج إلى قطع مسافة فأشبه الحج وإن كان القتال قريبا من البلد لم يشترط ذلك لأنه لا يحتاج إلى ركوب ولا نفقة طريق والاستطاعة‏:‏ وجدان الزاد والسلاح وآلة القتال ومركوب يبلغه إذا كان على مسافة القصر لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا أن لا يجدوا ما ينفقون‏}‏‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏متى يتعين الجهاد‏؟‏‏]‏

ويتعين الجهاد في موضعين‏:‏

إحداهما‏:‏ إذا التقى الزحفان تعين الجهاد على من حضر لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا‏}‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار‏}‏ الآية‏.‏

الثاني‏:‏ إذا نزل الكفار ببلد المسلمين تعين على أهله قتالهم والنفير إليهم ولم يجز لأحد التخلف إلا من يحتاج إلى تخلفه لحفظ الأهل والمكان والمال ومن يمنعه الأمير الخروج لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏انفروا خفافا وثقالا‏}‏ ولأنهم في معنى حاضر الصف فتعين عليهم كما تعين عليه‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏المدة التي يجاهد فيها‏]‏

وأقل ما يفعله الجهاد مرة في كل عام لأن الجزية تجب على أهل الذمة في كل عام مرة وهي بدل عن النصرة فكذلك مبدلها وهو الجهاد إلا لعذر من ضعف بالمسلمين أو انتظار مدد أو مانع في الطريق من قلة علف أو غيره أو طمعه في إسلامهم بتأخير قتالهم ونحو هذا لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد صالح قريشا عشر سنين وأخر قتالهم حتى نفضوا عهده وإن دعت الحاجة إلى فعله في العام أكثر من مرة وجب لأنه فرض كفاية فكان على حسب الحاجة‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏حكم من كان أحد أبويه مسلما‏]‏

ومن كان أحد أبويه مسلما لم يجز له الجهاد إلا بإذنه لما روى ابن العباس قال‏:‏ جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول الله أجاهد‏؟‏ قال‏:‏ ‏[‏لك أبوان‏]‏ قال‏:‏ نعم قال‏:‏ ‏[‏ففيهما فجاهد‏]‏ قال الترمذي‏:‏ هذا حديث صحيح ولأن الجهاد فرض كفاية وبرهما فرض عين فوجب تقديمه فإن كانا كافرين فلا إذن لهما لأن أبا بكر الصديق وأبا حذيفة بن عتبة رضي الله عنهما وغيرهما كانوا يجاهدون بغير إذن آبائهم ولأنهما متهمان في الدين وإن كانا رقيقين ففيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ يعتبر إذنهما لأنهما كالحرين في البر والشفقة والدين‏.‏

والثاني‏:‏ لا إذن لهما لأنه لا ولاية لهما ولا نفقة ولا إذن لهما في أنفسهما ففي غيرهما أولى ولا إذن لغيرهما من الأقارب كالجدين وسائر الأقارب لأن الشرع لم يرد بذلك ولا هو في معنى المنصوص عليه لتأكيد حرمة الوالدين في البر والتقديم في الإرث والنفقة والحجب والولاية وغيرها ومتى تعين الجهاد فلا إذن لأبويه صار فرض عين فلم يعتبر إذنهما فيه كالحج الواجب وكذلك كل الفرائض لا طاعة لهما في تركه لأن تركه معصية ولا طاعة لمخلوق في معصية الله تعالى كالسفر لطلب العلم الواجب الذي لا يقدر على تحصيله في بلده ونحو ذلك وإن أراد سفرا غير واجب فمنعاه منه لم يجز له لما روي عن عبد الله بن عمرو قال‏:‏ جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ جئت أبايعك على الهجرة وتركت أبوي يبكيان قال‏:‏ ‏[‏ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما‏]‏ من المسند‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏الجهاد لمن عليه دين‏]‏

ولا يجوز لمن عليه دين الجهاد إلا بإذن غريمه إلا أن يقيم به كفيلا أو يعطي به رهنا أو يكون له من يقضيه عنه لما روى أبو قتادة أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول الله إن قتلت في سبيل الله كفر الله خطاياي‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏إن قتلت في سبيل الله صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر كفر الله عنك خطاياك إلا الدين كذلك قال جبريل‏]‏ رواه مسلم ولأن فرض أداء الدين متعين عليه فلا يجوز تركه لفرض على الكفاية يقوم غيره فيه مقامه‏.‏

والمؤجل كالحال لأنه يعرض نفسه للقتل فيضيع الحق فإن كان له مال غائب فهو كالمعسر لأنه قد يتلف فيضيع الحق وإن تعين عليه الجهاد فلا إذن لغريمه لما ذكرنا في الوالدين وإن أذن له الغريم جاز له الجهاد لأن الحق له فجاز بإذنه فإن رجع عن الإذن أو أذن له أبواه في الغزو ثم رجعا أو كانا كافرين فأسلما أو رقيقين فعتقا قبل التقاء الزحفين لم يجز الخروج إلا بإذن مستأنف وإن كان بعده فلا إذن لهما لأنه صار متعينا فقدم لما ذكرنا‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏الجهاد أفضل التطوع‏]‏

وأفضل التطوع الجهاد في سبيل الله نص عليه أحمد وذكر له أمر الغزو فجعل يبكي ويقول‏:‏ ما من أعمال البر أفضل منه وأي عمل أفضل منه‏؟‏ والذين يقاتلون في سبيل الله‏:‏ هم الذين يدفعون عن الإسلام وعن حريمهم وقد بذلوا مهج أنفسهم الناس آمنون وهم خائفون وقد روى أبو سعيد الخدري قال‏:‏ قيل‏:‏ يا رسول الله أي الناس أفضل‏؟‏ قال‏:‏ ‏[‏مؤمن يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله‏]‏ متفق عليه وعن أبي هريرة قال‏:‏ ‏[‏سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أي الأعمال أفضل‏؟‏ أو أي الأعمال خير‏؟‏ قال‏:‏ إيمان بالله ورسوله قيل‏:‏ ثم أي‏؟‏ قال‏:‏ الجهاد سنام العمل قيل‏:‏ ثم أي‏؟‏ قال‏:‏ ثم حج مبرور‏]‏ حديث صحيح ولأن نفعه عظيم وخطره كبير فكان أفضل مما دونه‏.‏

وغزو البحر أفضل من غزو البر لما روى أبو داود عن أم حرام عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏المائد في البحر الذي يصيبه القيء له أجر شهيد والغرق له أجر شهيدين‏]‏ وروى ابن ماجة بإسناده عن أبي أمامة قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ‏[‏شهيد البحر مثل شهيدي البر والمائد في البحر كالمتشحط في دمه في البر وما بين الموجتين كقاطع الدنيا في طاعة الله وإن الله وكل ملك الموت بقبض الأرواح إلا شهيد البحر فإنه يتولى قبض أرواحهم ويغفر لشهيد البر الذنوب كلها إلا الدين ولشهيد البحر الذنوب والدين‏]‏ ولأن غزو البحر أعظم خطرا فإنه بين خطر القتل والغرق ولا يمكنه الفرار دون أصحابه‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏الرباط‏]‏

وفي الرباط فضل عظيم‏:‏ وهو المقام بالثغر مقويا للمسلمين والثغر‏:‏ كل مكان يخيف العدو ويخافه قال أحمد‏:‏ ليس يعدل الرباط والجهاد شيء وعن سلمان قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏[‏رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه فإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله وأجري عليه رزقه وأمن الفتان‏]‏ أخرجه مسلم‏.‏

وعن عثمان رضي الله عنه قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏[‏رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل‏]‏ حديث صحيح وليس لأقله وأكثره حد وتمامه أربعون يوما لأنه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏[‏تمام الرباط أربعون يوما‏]‏ أخرجه أبو الشيخ في كتاب الثواب ويروى ذلك عن ابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهم وأفضل الرباط المقام بأشد الثغور خوفا لأنه أنفع للمسلمين وأشد خطرا ولا يستحب نقل أهله إلى الثغر المخوف نص عليه أحمد وقال‏:‏ أخاف عليه الإثم لأنه يعرض ذريته للمشركين وقد قال عمر‏:‏ لا تنزلوا المسلمين ضفة البحر ويستحب لأهل الثغر أن يجتمعوا في المسجد الأعظم لصلواتهم ليكون أجمع لهم إذا حضر النفير فيبلغ الخبر جميعهم وتراهم عين الكفار فتخافهم وتخوف منهم قال الأوزاعي‏:‏ لو أن لي ولاية على المساجد يعني التي في الثغر لسمرت أبوابها يريد أن تكون صلاتهم في موضع واحد‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏قتال كل قوم من يليهم من العدو‏]‏

ويقاتل كل قوم من يليهم من العدو لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار‏}‏ ولأنهم أهم فتجب البداءة بهم إلا أن تدعو الحاجة إلى البداءة بغيرهم إما لانتهاز فرصة فيهم أو خوف الضرر بتركهم أو لمانع من قتال الأقرب فيبدأ بالأبعد لذلك ويستحب التحريض عل القتال لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين‏}‏ ويستحب ذكر الله والدعاء لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون‏}‏ ويستحب أن يدعو الكفار إلى الإسلام قبل قتالهم لما روى سهل بن سعد الساعدي قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي كرم الله وجهه يوم خيبر‏:‏ ‏[‏إذا نزلت بساحتهم فادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم فوالله لأن يهدي الله بهداك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم‏]‏ متفق عليه ولا تجب الدعوة نص عليه أحمد وقال‏:‏ إن الدعوة قد بلغت كل أحد ولا أعرف اليوم أحدا يدعى إنما كانت الدعوة في أول الإسلام وقد روى ابن عمر‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غارون آمنون وإبلهم تسقى على الماء فقتل المقاتلة وسبى الذرية متفق عليه وإن اتفق في الجزائر البعيدة من لم تبلغه الدعوة وجبت دعوته لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا‏}‏ فلا يجوز قتالهم على ما لا يلزمهم‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏حكم هروب المسلم من الكافرين‏]‏

ولا يحل لمسلم أن يهرب من كافرين ولا لجماعة أن يفروا من مثليهم لقول الله تعالى ‏{‏الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين‏}‏ وهذا أمر بلفظ الخبر لأنه لو كان خبرا بمعناه لم يكن تخفيفا ولوقع الخبر بخلاف المخبر والأمر يقتضي الوجوب ‏{‏إلا متحرفا لقتال‏}‏ وهو أن ينصرف من ضيق إلى سعة أو من سفل إلى علو أو من مكان منكشف إلى مستتر أو من استقبال ريح أو شمس إلى استدبارهما ونحو ذلك مما هو أمكن له في القتال ‏{‏أو متحيزا إلى فئة‏}‏ ينضم إليهم ليقابل معهم لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار‏.‏ ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله‏}‏ وسواء قربت الفئة أو بعدت لما روى ابن عمر‏:‏ أنه كان في سرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم فحاص المسلمون حيصة عظيمة وكنت فيمن حاص فلما برزنا قلنا‏:‏ كيف نصنع وقد فررنا من الزحف وبؤنا بغضب من الله‏؟‏ فجلسنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل صلاة الفجر فلما خرج قمنا فقلنا له‏:‏ نحن الفرارون فقال‏:‏ ‏[‏لا بل أنتم العكارون أنا فئة كل مسلم‏]‏ أخرجه الترمذي وقال‏:‏ حديث حسن وعن عمر رضي الله عنه أنه قال‏:‏ أنا فئة كل مسلم وقال‏:‏ لو أن أبا عبيد تحيز إلي لكنت له فئة وكان عبيد بالعراق وإن كان العدو أكثر من المثلين لم تجب مصابرتهم لأن الله تعالى لما فرض مصابرة المثلين دل على إباحة الفرار من الزائد عليهما وقال ابن عباس‏:‏ من فر من اثنين فقد فر ومن فر من ثلاثة فما فر لكن إن غلب على ظنهم الظفر فالأولى لهم الثبات ليحصل لهم الأجر والغنيمة ومسرة المسلمين بظفرهم وإن غلب على ظنهم الهلاك بالإقامة والنجاة في الفرار فالفرار أولى لئلا يكسروا قلوب المسلمين بهلاكهم وإن ثبتوا جاز لأن لهم غرضا في الشهادة وإن غلب على ظنهم الهلاك في الإقامة والانصراف فالأولى الثبات ليحصل لهم ثواب الشهداء الصابرين المقبلين ولأنه يجوز أن يظفروا فيسلموا ويغنموا فإن الله تعالى يقول‏:‏ ‏{‏كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين‏}‏ وإن خشوا الأسر قاتلوا حتى يقتلوا لينالوا شرف الشهادة ولا يتسلط الكفار على إهانتهم وتعذيبهم وإن استأسروا جاز لأن عاصم بن ثابت وخبيب بن عدي وزيد بن الدثنة في عشرة رهط كانوا سرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنفرت إليهم هذيل بقريب من مائة رجل رام فعرضوا عليهم أن يستأسروا فأبوا فقتلوا عاصما في سبعة ونزل إليهم خبيب وزيد على العهد والميثاق فلم يذم أحدا منهم وإن ألقى الكفار نارا في سفينة فيها مسلمون فما غلب على ظنهم السلامة فيه فالأولى فعله لأن فيهم صيانتهم عن الهلاك وإن ثبتوا جاز قال أحمد‏:‏ كيف شاء صنع وإن تساوى الأمران فهم بالخيار بين المقام بالسفينة وإلقاء نفوسهم في الماء لأنهما موتتان فيختار أيسرهما وعنه‏:‏ أنه يلزمهم المقام لئلا يكون موته بفعله فيكون معينا على نفسه‏.‏

باب‏:‏ ما يلزم الإمام وما يجوز له

يجب عليه أن يشحن ثغور المسلمين بجيوش يكفون من يليهم ويقويها بالعدد والآلات ويؤمر عليهم أميرا ذا رأي وشجاعة ودين لأنه إذا لم يفعل لم يأمن دخول الكفار من بعض الثغور فيصيبون المسلمين وإن احتاج إلى بناء حصن أو حفر خندق فعل لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم خندق على المدينة في غزوة الأحزاب وإذا بعث جيشا أو سرية لزمه أن يولي عليهم أميرا على الصفة المذكورة ويوصيه بجيشه لما روى بريدة قال‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميرا على سرية أو جيش أمره بتقوى الله في خاصته ومن معه من المسلمين ولما بعث أبو بكر رضي الله عنه جيوشه إلى الشام خرج مع أمرائهم يشيعهم ويوصيهم ويعهد إليهم‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏الحكم إذا أراد الإمام أو الأمير الغزو‏]‏

وإذا أراد الإمام أو الأمير الغزو لزمه أن يعرض جيشه ويتعاهد الخيل والرجال فلا يدع فرسا حطما وهو الكسير ولا قحما وهو الكبير ولا ضرعا وهو الصغير ولا هزيلا يدخل معه أرض العدو لئلا ينقطع فيها وربما كانت سببا للهزيمة ولا يأذن لمخذل من الناس وهو الذي يفند الناس عن الغزو ولا لمرجف وهو الذي يحدث بقوة الكفار وضعف المسلمين وهلاك بعضهم ويخيل لهم أسباب ظفر عدوهم بهم ولا لمن يعين العدو بمكاتبتهم بأخبار المسلمين والتجسس لهم ولا لمن يضر المسلمين بإيقاع الاختلاف بينهم ولا لمن يعرف بالنفاق والزندقة لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا‏}‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين‏}‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة‏}‏ قيل‏:‏ معناه‏:‏ لأوقعوا بينكم الاختلاف وقيل‏:‏ لأسرعوا في تفريق جمعكم لأن في حضورهم ضررا فيجب صيانة المسلمين عنه ولا يأذن لطفل ولا مجنون لأن دخولهم تعرض للهلاك لغير فائدة ويجوز أن يأذن لمن اشتد من الصبيان لأن فيهم معونة ونفعا ولا يأذن لمشرك لما روت عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى بدر فتبعه رجل من المشركين قال‏:‏ ‏[‏تؤمن بالله ورسوله‏؟‏ قال‏:‏ لا قال‏:‏ فارجع فلن نستعين بمشرك‏]‏ حديث حسن فإن دعت حاجة إليه ولم يكن حسن الرأي في المسلمين لم يستعن به أيضا لأن ما يخشى من ضرره أكثر مما يرجى من نفعه وإن كان حسن الرأي فيهم جاز لأن صفوان بن أمية شهد حنينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على شركه ولا يأذن للمرأة الشابة الجميلة لأنها ليست من أهل القتال ولا يؤمن الضرر عليها وبها ويجوز أن يأذن للطاعنة في السن لسقي الماء ومعالجة الجرحى لما روى أنس قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بأم سليم ونسوة معها من الأنصار يسقين الماء ويداوين الجرحى وهذا حديث صحيح‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏الخروج يوم الخميس للجهاد‏]‏

ويستحب أن يخرج يوم الخميس لما روى كعب بن مالك قال‏:‏ قلما كان رسول الله صلى اله عليه وسلم يخرج في سفر إلا يوم الخميس ويعبئ جيشه ويرتب في كل جانب كفؤا لما روى أبو هريرة قال‏:‏ كنت مع النبي صلى عليه وسلم فجعل خالدا على إحدى المجنبتين وجعل الزبير في الأخرى وجعل أبا عبيدة على الساقة ولأن ذلك أحوط للحرب وأبلغ في إرهاب العدو ويعقد الألوية والرايات ويجعل لكل طائفة لواء لما روى ابن عباس‏:‏ أن أبا سفيان حين أسلم قال النبي صلى الله عليه وسلم للعباس رضي الله عنه‏:‏ ‏[‏احبسه على الوادي حتى تمر به جنود الله فيراها‏]‏ قال فحبسته على الوادي حيث أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم ومرت به القبائل على راياتها وهو متحير في ألوانها لكنه يغاير ألوانها ليعرف كل قوم راياتهم ويعرف عليهم العرفاء ويجعل لكل طائفة أميرا ويكلفهم من السير ما يقدر عليه ضعيفهم لئلا ينقطع عنهم أو يشق عليه إلا أن تدعو حاجة إلى الجد في السير لمصلحة رآها فيجوز لأن النبي صلى الله عليه وسلم جد في السير حين بلغه قول عبد الله بن أبي‏:‏ ليخرجن الأعز منها الأذل ليشغل الناس عن الخوض فيه ويتخير لهم من المنازل أصلحها لهم ويتتبع مكامنها فيحوطها عليهم ولا يغفل الحرس والطلائع ليحفظهم من البيات وقد روى سهل بن الحنظلية‏:‏ أنهم ساروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين فأطنبوا السير حتى إذا كان عشية قال‏:‏ ‏[‏من يحرسنا الليلة‏]‏ فقال أنس بن أبي مرثد الغنوي‏:‏ أنا يا رسول الله قال‏:‏ ‏[‏فاركب‏]‏ فركب فرسا له وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ فقال له‏:‏ ‏[‏استقبل هذا الشعب حتى تكون في أعلاه ولا نغرن من قبلك الليلة‏]‏ فلما أصبحنا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مصلاه فركع ركعتين ثم قال‏:‏ ‏[‏هل أحسستم فارسكم‏]‏ قالوا‏:‏ لا فثوب بالصلاة فجعل رسو ل الله صلى الله عليه وسلم يصلي وهو يلتفت إلى الشعب حتى إذا قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته قال‏:‏ ‏[‏أبشروا فقد جاءكم فارسكم‏]‏ فإذا هو قد جاء حتى وقف عل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ إني انطلقت حتى كنت في أعلى هذا الشعب حيث أمرني رسوا الله صلى الله عليه وسلم فلما أصبحت اطلعت الشعبين كليهما فنظرت فلم أر أحدا فقال رسول الله صلى اله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏هل نزلت الليلة‏]‏ قال‏:‏ لا إلا مصليا أو قاضيا حاجة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏قد وجبت فلا عليك ألا تعمل بعدها‏]‏ رواه أبو داود ويذكي العيون ليعلم أخبار عدوه فيتحرز منهم ويتمكن من الفرصة فيهم ويستشير ذوي الرأي من أصحابه لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وشاورهم في الأمر‏}‏ وكان النبي صلى الله عليه وسلم أكثر الناس مشاورة لأصحابه ويمنع جيشه من المعاصي والتشاغل بالتجارة المانعة لهم من القتال ويقوي نفوسهم بما يخيل إليهم من أسباب الظفر ويعد ذا الصبر منهم بالأجر والنفل ويخفي من أمره ما أمكن إخفاؤه لئلا يعلم به عدوه فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد غزوة ورى بغيرها ولا يميل مع أهله وموافقيه في مذهبه على مخالفيه لئلا تنكسر قلوبهم فيخذلوه عند الحاجة ويعد لهم الزاد ويراعي من معه ويرزق كل واحد بحسب حاجته‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏قتال أهل الكتاب والمجوس حتى يسلموا أو يعطوا الجزية‏]‏

ويقاتل أهل الكتاب والمجوس حتى يسلموا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون‏}‏ ويقاتل من سواهم من الكفار حتى يسلموا في ظاهر المذهب ولا يجوز قتل نسائهم وصبيانهم لما روى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن قتل النساء والصبيان متفق عليه ولأنهما يصيران رقيقا ومالا للمسلمين فقتلهما إتلاف لمال المسلمين‏.‏

ولا قتل شيخ فإن لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏[‏لا تقتلوا شيخا فانيا ولا طفلا ولا امرأة‏]‏ رواه أبو داود ولأنه لا نكاية له في الحرب أشبه المرأة‏.‏

ولا قتل زمن ولا أعمى لأنهما في معنى الشيخ الفاني ولا راهب لما روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه‏:‏ أنه أوصى يزيد بن أبي سفيان حين بعثه إلى الشام فقال‏:‏ لا تقتلوا الولدان ولا النساء ولا الشيوخ وستجدون قوما حبسوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما حبسوا له أنفسهم ولا قتل خنثى مشكل أنه يحتمل أنه امرأة فلا يجوز فتله مع الشك ومن قاتل من هؤلاء كلهم قتل لأن النبي صلى الله عليه وسلم قتل يوم قريظة امرأة ألقت حجرا على محمود بن مسلمة ومن كان ذا رأي يعين به في الحرب جاز قتله لأن الرأي في الحرب أبلغ من القتال لأنه الأصل وعنه يصدر القتال قال المتنبي‏:‏

‏(‏الرأي قبل شجاعة الشجعان‏.‏‏.‏‏.‏ هو أول وهي المحل الثاني‏.‏

فإذا هما اجتمعا لنفس حرة بلغت من العلياء كل مكان‏.‏

ولربما طعن الفتى أقرانه بالرأي قبل تطاعن الفرسان‏)‏‏.‏

وإن تترس الكفار بصبيانهم ونسائهم جاز رميهم بقصد المقاتلة لأن المنع من رميهم يفضي إلى تعطيل الجهاد وإن تترسوا بأسارى المسلمين أو أهل الذمة لم يجز رميهم إلا في حال التحام الحرب والخوف على المسلمين لأنهم معصومون لأنفسهم فلم يبح التعرض لإتلافهم من غير ضرورة وفي حال الضرورة يباح رميهم لأن حفظ الجيش أهم‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏تبييت الكفار ورميهم بالمنجنيق ونحو ذلك‏]‏

ويجوز بيات الكفار ورميهم بالمنجنيق والنار وقطع المياه عنهم وإن تضمن ذلك إتلاف النساء والصبيان لما روى الصعب بن جثامة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن الدار من ديار المشركين نبيتهم فنصيب من نسائهم وذراريهم‏؟‏ فقال‏:‏ ‏[‏هم منهم‏]‏ متفق عليه وروي عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نصب منجنيقا على أهل الطائف والتغريق بالماء في معناه‏.‏

فإن كان فيهم مسلمون فأمكن الفتح بدون ذلك لم يجز رميهم لأنه تعريض لقتلهم من غير حاجة وإن لم يمكن بدونه جاز لأن تحريمه يفضي إلى تعطيل الجهاد‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏حكم قتل ما يقاتِل عليه الكفار من دوابهم‏]‏

ويجوز قتل ما يقاتلون عليه من دوابهم لأن قتلها وسيلة إلى الظفر بهم فإذا صارت إلينا لم يجز قتلها لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل شيء من الدواب صبرا ولأنها مال المسلمين ولا يجوز ذبحها إلا لأكل لا بد لهم منه ولا يجوز تحريق النحل ولا تغريقه لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل النحلة وقال أبو بكر‏:‏ لا تحرقن نحلا ولا تغرقنه ويجوز أخذ الشهد وفي أخذه كله روايتان‏:‏

إحداهما‏:‏ لا يجوز لأن فيه قتل النحل وهلاكه‏.‏

والثانية‏:‏ يجوز لأن هلاكه إنما يحصل ضمنا غير مقصود فأشبه قتل النساء في البيات‏.‏

ويجوز هدم بنيانهم وقطع شجرهم وحرق زرعهم إذا احتيج إليه للتمكن من قتالهم ونحوه ولا يجوز إذا كان فيه ضرر بالمسلمين لحاجتهم إلى الاستظلال أو الاستتار به أو الأكل منه أو علف دوابهم وما عدا ذلك ففيه روايتان‏:‏

إحداهما‏:‏ جوازه لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين‏}‏ وروى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرق نخل بني النضير وقطع وهي البويرة فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏ما قطعتم من لينة‏}‏ ولها يقول حسان رضي الله عنه‏:‏

‏(‏وهان على سراة بني لؤي‏.‏‏.‏‏.‏ حريق بالبويرة مستطير‏)‏‏.‏

رواه مسلم‏.‏

وروى أسامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عهد إليه فقال‏:‏ ‏[‏أعز على أبنى صباحا وحرق‏]‏ رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة‏.‏

والثانية‏:‏ لا يجوز إلا أن يكونوا يفعلون ذلك بنا لما روى أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال ليزيد وهو يوصيه حين بعثه أميرا‏:‏ يا يزيد لا تقتل صبيا ولا امرأة ولا هرما ولا تخربن عامرا ولا تعقون شجرا مثمرا ولا دابة عجماء ولا شاة إلا لمأكلة ولا تحرقن نحلا ولا تغرقنه ولا تغلل ولا تجبن رواه سعيد فإن كانوا يفعلونه في بلدنا جاز فعله بهم لينتهوا وإن أخذنا منهم مالا فعجزنا عن تخليصه إلى دار الإسلام جاز إتلافه كيلا ينتفعوا به‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏حكم الأسرى من أهل القتال‏]‏

ويخير الإمام في الأسرى من أهل القتال بين أربعة أشياء القتل والفداء والمن والاسترقاق فأما الفداء والمن فقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء‏}‏ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم من على أبي عزة الجمحي الشاعر ومن على أبي العاص بن الربيع ومن على ثمامة بن أثال الحنفي وفادى أسيرا برجلين من أصحابه أسرتهما ثقيف وفادى أسارى بدر بالمال وأما القتل فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قتل يوم بدر النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط صبرا وقتل يوم أحد أبا عزة الجمحي وقال قريظة ولأنه أنكى فيهم وأبلغ في إرهابهم فيكون أولى وأما الاسترقاق فيجوز في أهل الكتاب والمجوس لأنه يجوز إقرارهم على كفرهم بالجزية فالرق أولى لأنه أبلغ في صغارهم وإن كان من غيرهم ففيه روايتان‏:‏

إحداهما‏:‏ لا يجوز إرقاقه اختارها الخرقي لأنه لا يقر بالجزية فلم يجز إرقاقه كالمرتد‏.‏

والثانية‏:‏ يجوز لأنه كافر أصلي فأشبه الكتابي وإن أسلم الأسير حرم قتله لقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث‏]‏ ويتخير فيه بين المن عليه لأنه جاز المن عليه حال كفره ففي حال إسلامه أولى بين إرقاقه وفدائه‏.‏

وقال أصحابنا‏:‏ يصير رقيقا بنفس الإسلام ويسقط التخيير لأنه ممن يحرم قتله فأشبه المرأة‏.‏

وأما النساء والصبيان فإنهم يصيرون رقيقا بنفس السبي لأنهم مال ضرر في اقتنائه فأشبهوا البهائم‏.‏

وأما الرجال الذين يحرم قتلهم كالشيخ الفاني ونحوه فلا يجوز سبيهم لأنه لا نفع من استرقاقهم ولا يحل قتلهم إذا ثبت هذا فإن التخيير الثابت في الأسرى تخيير مصلحة واجتهاد لا تخيير شهوة فمتى رأى المصلحة للمسلمين في إحدى الخصال تعينت عليه ولم يجز له غيرها لأنه ناظر للمسلمين فلم يجز له ترك ما فيه الحظ لهم كولي اليتيم فمتى رأى القتل ضرب عنقه بالسيف لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏فضرب الرقاب‏}‏ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالذين قتلهم فضربت أعناقهم ولا يجوز التمثيل به لما روى بريدة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أمر أميرا على جيش أو سرية قال‏:‏ ‏[‏اغزو بسم الله قاتلوا من كفر بالله لا تغدوا ولا تمثلوا ولا تغلوا‏]‏ وإن اختار الفداء جاز أن يفاديهم بأسارى المسلمين وجاز بالمال لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل الأمرين وقال أبو الخطاب‏:‏ لا يجوز فداؤهم بالمال في أحد الوجهين فإن فادى بالمال أو استرقهم كان الرقيق والمال للغانمين وليس له إطلاق الأسارى ولا المال إلا برضاهم لما روى مروان بن الحكم والمسور بن مخرمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما جاءه وفد هوازن مسلمين قال‏:‏ ‏[‏إن إخوانكم جاءوا تائبين وإني قد رأيت أن أرد عليهم سبيهم فمن أحب أن يطيب ذلك فليفعل ومن أحب أن يكون على حقه حتى نعطيه إياه من أول ما يفئ الله علينا فليفعل‏]‏ فقال الناس‏:‏ قد طيبنا ذلك يا رسول الله أخرجه البخاري‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏فداء النساء بالمال‏]‏

ومنع أحمد رضي الله عنه فداء النساء بالمال لأن في بقائهن في الرق تعريضا لهن للإسلام لمعاشرتهن للمسلمين وجوز أن يفادى بهن أسارى المسلمين لأن النبي صلى الله عليه وسلم فادى بالمرأة التي أخذها من سلمة بن الأكوع رجلين من المسلمين ولأن في ذلك استنقاذ مسلم متحقق إسلامه وإن أسلمت لم يجز ردها إلى الكفار بفداء ولا غيره لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا ترجعوهن إلى الكفار‏}‏ ولا يجوز المفاداة بالصبيان بحال لأنهم يصيرون مسلمين بإسلام سابيهم‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏بيع رقيق المسلمين لكافر‏]‏

ولا يجوز بيع رقيق المسلمين لكافر نص عليه أحمد رضي الله عنه لما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كتب إلى أمراء الأمصار‏:‏ ينهاهم عنه ولأن في بقائهم رقيقا للمسلمين تعريضا لهم للإسلام وفي بيعهم لكافر تفويت ذلك فلم يجز‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏الحكم إن أسر من يقر بالجزية‏]‏

وإن أسر من يقر بالجزية فبذلها لم يلزم قبولها لأنه قد ثبت حق التخيير فيه بين الأمور الأربعة فلم يسقط ببذله ويجوز للإمام إجابته إليها إذا رأى ذلك لأنه بمنزلة المن عليه‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏حكم نقل رءوس الكفار من بلد إلى بلد أو رميها في المنجنيق‏]‏

ويكره نقل رءوس الكفار من بلد إلى بلد ورميها في المنجنيق لأن فيه مثلة وقد روى عقبة بن عامر‏:‏ أنه قدم على أبي بكر برأس بناق البطريق فأنكر ذلك فقيل‏:‏ يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم إنهم يفعلون بنا هذا قال‏:‏ فاستبان بفارس والروم‏؟‏ لا يحمل رأس وإنما يكفي الكتاب والخبر رواه سعيد‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏الحكم إذا حصر الإمام حصنا‏]‏

إذا حصر الإمام حصنا فرأى المصلحة في مصابرته لزمه ذلك لأن عليه فعل ما فيه الحظ للمسلمين وإن كانت المصلحة في الانصراف انصرف لذلك وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم حاصر أهل الطائف فلم ينل منهم شيئا فقال‏:‏ ‏[‏إنا قافلون إن شاء الله غدا‏]‏ فقال المسلمون‏:‏ أنرجع ولم نفتتحه‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏اغدوا على القتال‏]‏ فغدوا عليه فأصابهم جراح فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏إنا قافلون غدا‏]‏ فأعجبهم فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم متفق عليه‏.‏

وإن أسلم أهل الحصن قبل فتحه عصموا دماءهم وأموالهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا‏:‏ لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها‏]‏‏.‏

وإن طلبوا النزول على حكم الحاكم جاز لأن بني قريظة حين حصرهم النبي صلى الله عليه وسلم نزلوا على حكم سعد بن معاذ فحكم فيهم‏:‏ بقتل مقاتليهم وسبي ذراريهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة‏]‏‏.‏

ويجب أن يكون الحاكم بالغا عاقلا حرا مسلما ذكرا عدلا عالما لأنه ولاية حكم فأشبه ولاية القضاء ولا يشترط أن يكون بصيرا لأن الذي يقتضي الحكم فيهم هو الذي يشتهر من حالهم وذلك يدرك بالسمع فأشبه الشهادة فيما طريقه السمع‏.‏

ويكره أن يكون حسن الرأي فيهم لأنه يخشى ميله إليهم ويجوز حكمه لأنه عل في دينه فإن نزلوا على حكم من يختاره الإمام جاز لأنه لا يختار إلا من يجوز حكمه ولا يجوز أن ينزلوا على حكم من يختارونه لأنهم قد يختارون من لا يصلح ويجوز أن ينزلوا على حكم اثنين أو أكثر لأنه تحكيم في مصلحة طريقها الرأي فأشبه التحكيم في اختيار الإمام وإن نزلوا على حكم من لا يجوز حكمه أو حكم من يجوز فمات قبل الحكم وجب ردهم إلى حصنهم لأنهم نزلوا على أمان فلا يجوز أخذهم ولا يجوز للحاكم الحكم إلا بما فيه الحظ للمسلمين لأنه نائب الإمام فقام مقامه في اختيار الأحظ من الأمور الأربعة فإن حكم بالمن فقال القاضي‏:‏ يلزم حكمه كذلك وقال أبو الخطاب‏:‏ لا يلزم لأن الإمام إذا لم يره تبين أنه لا حظ فيه فلم يلزم حكمه به فإن حكم بعقد الذمة ففيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ يلزم حكمه لأنهم رضوا بحكمه‏.‏

والثاني‏:‏ لا يجوز لأنه عقد معارضة فلم يجز إلا برضى الفريقين فإن حكم بالقتل والسبي جاز لأن سعدا حكم به في بني قريظة فصادف حكم الله تعالى‏.‏

وللإمام أن يمن على من حكم عليه بالقتل لأن ثابت بن قيس بن شماس سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهب له الزبير بن باطا اليهودي بعد الحكم عليهم فوهبه له وأطلق له أهله وماله وإن حكم باسترقاقهم لم يجز أن يمن عليهم إلا برضى الغانمين لأنهم صاروا مالا لهم وإن حكم بالقتل فأسلموا عصموا دماءهم لأن قتل المسلم حرام ولم يعصموا أموالهم لأنها صارت للمسلمين قبل إسلامهم وفي استرقاقهم روايتان‏:‏

إحداهما‏:‏ لا يسترقون ذكره القاضي لأنهم أسلموا قبل استرقاقهم فأشبه ما لو أسلموا قبل القدرة عليهم‏.‏

والثانية‏:‏ يسترقون لأنهم أسلموا بعد القدرة عليهم ووجوب قتلهم فأشبهوا الأسير إذا أسلم بعد اختيار الإمام قتله‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏حكم من أسلم قبل القدرة عليه‏]‏

ومن أسلم قبل القدرة عليه عصم نفسه وماله وأولاده الصغار للخبر المذكور‏.‏

ولأن النبي صلى الله عليه وسلم حاصر بني قريظة فأسلم ابنا سبيعة فأحرز إسلامهما أموالهما وأولادهما ولأن الأولاد تبع لوالدهما في الإسلام فكذلك في العصمة وإن كان للمسلم منفعة بإجارة لم تملك عليه لأنها مال ولا يعصم زوجته لأن النكاح ليس بمال ولا يجري مجراه وإن كانت حاملا منه فولده مسلم معصوم ويجوز استرقاقها لأنها حربية لا أمان لها ولا يعصم أولاده البالغين لأنهم لا يتبعونه في دينه فكذلك في عصمته وإذا ادعى الأسير أنه أسلم قبل الأسر لم يقبل إلا ببينة فإن شهد له مسلم وحلف معه ثبت ذلك له لأن ابن مسعود شهد لسهيل بن بيضاء أنه سمعه يذكر الإسلام فقبل النبي صلى الله عليه وسلم شهادته وأطلقه من الأسر‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏حكم من أسلم من الأبوين‏]‏

ومن أسلم من الأبوين كان أولاده الأصاغر تبعا له في الإسلام رجلا كان أو امرأة لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم‏}‏ ويتبعه الحمل لأنه لا يصح إسلامه بنفسه فتبعه كالولد وإن لم يسلم واحد منهما فولدهما كافر لأنه لا حكم لنفسه فتبع أبويه كولد المسلم فإن مات الأبوان أو أحدهما في دار الإسلام حكم بإسلام الولد لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏[‏كل مولود يولد على الفطرة فأبوه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه‏]‏ فجعل التبعية لأبويه معا فإذا مات أحدهما انقطعت التبعية فوجب بقاؤه على حكم الفطرة لأن الدار يغلب فيها حكم الإسلام بدليل الحكم بإسلام لقيطها وإنما منع ظهور حكمها اتباعه لأبويه فإذا مات أحدهما اختل المانع فظهر حكم الدار والحكم في المجنون الذي يبلغ مجنونا كالحكم في الصبي لأنه لا حكم لقوله فتبع في الإسلام كالطفل ولأنه يتبع والديه في الكفر ففي الإسلام أولى وإن بلغ عاقلا ثم جن ففيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ يتبع أباه لأنه لا حكم لقوله‏.‏

والثاني‏:‏ لا يتبع لأنه زال حكم التبعية ببلوغه عاقلا فلا يعود‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏الحكم إن سُبِيَ الطفل منفردا عن أبويه‏]‏

وإن سبي الطفل منفردا عن أبويه تبع سابيه في الإسلام لأنه زال حكم أبويه لإفراده عنهما واختلاف الدار بهما فأشبه ما لو ماتا ولأن سابيه كأبيه في حضانته فكان مثله في استتباعه وإن سبي معهما تبعهما لخبر أبي هريرة ولأنه لم ينفرد عنهما أشبه ما لو كان ذميا وإن سبي مع أحد أبويه حكم بإسلامه لأنه انقطع اتباعه لأحد أبويه فأشبه ما لو أسلم أو مات وقال أبو الخطاب‏:‏ يتبع أباه وقال القاضي‏:‏ فيه روايتان‏:‏

أشهرهما‏:‏ أنه يحكم بإسلامه لما ذكرنا‏.‏

والثانية‏:‏ يتبع أباه‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏حكم التفريق في البيع بين ذوي الأرحام‏]‏

ولا يجوز التفريق في البيع بين الوالدة وولدها ولا بين الوالد وولده ولا بين ذوي رحم محرم إذا كان أحدهما صغيرا فإن كانا بالغين فعلى روايتين ذكرناهما في البيع فإن اشترى من المغنم اثنين على أنه يحرم التفريق بينهما فتبين أنه جائز وجب رد الفضل الذي حصل بإباحة التفريق لأنه تبين له الفضل لم يعلم به البائع فوجب رده كما لو قبض الثمن على أنه عشرة فبان أحد عشر ولو اشترى من المغنم جارية معها مال أو حلي أو ثياب غير لباسها لزمه رده نص عليه لقوله عليه السلام‏:‏ ‏[‏من باع عبدا وله مال فماله للبائع‏]‏ لأن البيع إنما وقع عليها دونه‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏الحكم إذا سبيت المرأة دون زوجها‏]‏

إذا سبيت المرأة دون زوجها انفسخ نكاحها لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم‏}‏ قال أبو سعيد الخدري‏:‏ نزلت هذه الآية في سبي أوطاس أصبنا سبايا ولهن أزواج في قومهن فذكر ذلك لرسول الله فنزلت الآية قال الترمذي‏:‏ هذا حديث حسن ولأنه استولى على محل حق الكافر الحربي فأزاله كما لو سبيت أمته وقال أبو الخطاب‏:‏ عندي لا ينفسخ وإن سبي الرجل وحده لم ينفسخ نكاحه لأنه لم يستول على محل حقه أشبه ما لو لم يسب وإن سبي الزوجان لم ينفسخ نكاحهما لأن الرق لا يمنع ابتداء النكاح فلم يقطع استدامته كالعتق ويحتمل أن ينفسخ نكاحهما لأنه استولى على محل حقه فزال ملكه عنه كماله أو كما لم يسب معها‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏الحكم إن أسلم عبدٌ لحربي‏]‏

وإن أسلم عبد الحربي ولم يخرج إلينا فهو على رقه لأن يد سيده لم تزل عنه فلم يزل ملكه كما لو لم يسلم وإن خرج إلينا صار حرا لأنه أزال يد سيده قهرا فزال ملكه كما لو استولى عليه مسلم وإن أسر سيده وأخذ ماله وعياله فالمال له والسبي رقيقه لأن دار الحرب دار قهر فما استولى عليها فيها فهو للمستولي وقد روى أبو سعيد الأعشم قال‏:‏ قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن العبد إذا أخرج من دار الحرب قبل سيده أنه حر فإن خرج سيده بعد لم يرد إليه وقضى أن السيد إذا خرج قبل العبد ثم خرج العبد رد على سيده رواه سعيد‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏إقامة الحدود واستيفاء القصاص في أرض الحرب‏]‏

وليس للإمام أن يقيم حدا في أرض الحرب ولا يستوفي قصاصا لما روي عن بسر بن أرطاة أنه أتى برجل في الغزاة قد سرق بختية فقال‏:‏ لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏[‏لا تقطع الأيدي في الغزو لقطعتك‏]‏ رواه أبو داود‏.‏

وروى سعيد بإسناده عن عمر رضي الله عنه أنه كتب إلى الناس‏:‏ أن لا يجلدن أمير جيش ولا سرية رجلا من المسلمين حدا وهو غاز حتى يقطع الدرب قافلا لئلا تحلقه حمية الشيطان فيلحق بالكفار ولأنا لا نأمن أن يحمله الخوف من الحد فيلحق بالكفار فيجب تأخيره فإذا قفل وخرج من دار الحرب أقيم عليه حد ما فعل في دار الحرب لأنه واجب لوجود سببه تأخر لعارض زال بقفوله فتجب إقامته كما لو أخر لمرض وأما الثغور فتقام بها الحدود والقصاص لأنها دار إسلام وقد كتب عمر إلى أبي عبيدة رضي الله عنهما‏:‏ أن يجلد من شرب الخمر عنده ثمانين وكتب إلى خالد يأمره بمثل ذلك‏.‏